هذه ليست فقط رواية. إنها ذاكرة زاخرة تمنح القارئ فسحة الفرجة في نواحيها ولمس ما ظن أنه لن يرى ولو بين دفّتي كتاب. بلغة الكاتبة الغنية وسردها الساحر، سوف تعبر الصفحات الأولى بهدوء حتى تخطفك الدهشة وتبقى في حالتك هذه لا تحيد عنها حتى تسدل ستارة النهاية.
هي أوديسة الصحراء، بعثت أساطير البدو وجعلت منها ربّات تقف على أكتاف الجبال، وترفرف فوق جريد النخل، وتتهادى مع كثبان الرمال، بل إنها تحدو مع مسير القوافل الرائحة والعائدة. بنفس عميق وقلم ناضج، ترصد الروائية أمل الفاران روائح الأصالة وموارد الشوق التي يهفو إليها غواصو الأحقاف والتوق إلى ما كان بعيداً .
الغوص هنا ليس في بحار. بل غوصٌ في الذاكرة. بل ربما غوصٌ في الأنفس المتأرجحة في بلدة العقيق بين الخير والشر، والصواب والضلال. السردية مع لهجة البدو التي أثْرت بها الكاتبة نصّها تمنح من تربى في بيئة الرواية شعور الانتماء، وكأنه إحدى شخصياتها لا يستطيع الفكاك منها حتى بعد الفراغ منها. أما من يزور العقيق لأول مرة، سيولع بها وكأنها نافذة على حكايا الجدات الأصيلة.
أحياء ثلاثة تضم ثلاث قبائل يجمعهم جدٌّ واحد، مانع بن هادي، أورثهم شجرة سمرٍ تُدعى “مريفة”، حيث العهود والمواثيق التي نُقشت على جذعها المتغضن.
في الأحياء الثلاثة تُدار رحى الحروب، لا تدري مَن الغازي مِن المغزوّ، ولا الواتر من الموتور. فالرجال في العقيق “مع صرام النخيل، يكنزون التمر والرماح”! لا يهم من ابتدأها ولا من الأخير. فإن فتيل المشاحنات ما إن تضرمه نفسٌ شقية حتى يأكل ما أمامه ولا يذر.
بعد أن نقضوا عهد مريفة، تغيّر الكثير على تضاريس الواحة، بل حتى في أعماق أبناءها، فقد “اجتثت الشجرة من وجدانهم”. وحده الحب يمنح مشهد الأمان في الواحة. “العشق ابن النور، وكل حكاية حب في العقيق يجب أن تنمو تحت الأعين، فتحرسه حتى لا يدنسه زلل. وفي الواحة الصحراوية لن تسمح الظروف لفتاة بأن تحتجب فلا تنهض بنصيبها من العمل، ولكي تظل خطوتها حرة فعليها أن تحذر ألا يعلق اسمها في حكاية سرية”. ما سيشعره القارئ هو الغرق في متضادات الصحراء، فلا يكاد يلمح خضاب الحناء إلا ويجزع من خضاب الدماء، ولا يكاد يبتهج بصرم عذوق النخيل، حتى يقبض صدره صرمُ الرقاب. المعارك تختلط بدموع القلوب التي تخشى أن تصيب رماحها ذوي القربى. بل تختلط بشوك مريفة الذي يخز أرواح الناءين عن الحرب ولو بقلوبهم، وهو أضعف الإيمان. رواية عظيمة تستحق القراءة.