من أين أبدأ..!؟
من الخطوة التي تعثّرتْ بها قدمي على عتبة بيت جدتي لأمي الطينيّ، تائهة في حجراته السفلية المظلمة والمهجورة، والتي قيل لي أنها كانت للبيات الشتوي في زمنٍ قد ولى بمآسيه..؟
أم من اللحظات السادرة في الذهول وأنا ألتقط حبات المطر في فمي فوق حائط بيت جدتي لأبي، سعيدة بقدرة السماء سقياي كما تفعل الساقية قرب المزرعة تحت دوالي العنب الغضّة ..؟
ما الفارق حقيقةً..! فكلا البيتان أسهما مع مرور الزمن في صقل ذكريات مفرطة في البروز كلما أخذني الحنين إلى أصحابها.. بل إليّ معهم..! صغيرة لا تعنيني عتابات الكبار المبالغة في التصنيف والتبرير والمراوغة.
كان لبيت جدتي لأبي رائحة الإنتماء.. لجدرانه المتصدّعة قدرة على اجتذابنا لامتطائه أنّى شئنا دون أن يئن وجع الإسراف والإطالة.. حتى شجرة الليمون النافرة أغصانها على جِيده، يتساهل مع مزاج صعودها وتفرّعها اللامُتنبّأ به. كان بيتها الحجري البسيط يضم فناءً داخلي وغرفتين. بيت عفوي وُضِعت حيطانه كيفما اتفق، لا شيء يلزمه استكمال قياس ومواصفات البيوت الحديثة.. فقط حيّز يضمّ أجسادًا ضئيلة من الشتات.. إلا أن هذا الحيّز تعتّقه اللحظات الجميلة وتزين ثناياه أصابع الزمن التي طبعت ذكرى لقاءاتنا وأبناء العمومة..
كم كان يطيب لنا المبيت عند جدتي! و”لنا” هذه تعنيني وأخي الأصغر، لَصيقي في مغامراتي حين تغفل عين الرقيب عنّا، والتي تنتهي أغلب الأوقات بتوبيخ يترك طعماً مركزاً في فمي؛ طعماً ينضح بلذّة الخروج على العادة وكسر المحرمات..
كنا نبيت عند جدتنا بشكل شبه يومي، تُشارك هدأةَ الليل أقاصيصُها المغرقة في الأسطورية والعجائبية، يبهرنا صوتها الممزوج بهمهمات دافئة عميقة تبرع في إغراقنا في نوم عميق. في ليالي الصيف، كنا ننام في فناء الدار حيث لا سقف إلا السماء الحبلى بالنجوم البراقة والتي نعدّها سراً قبل أن نخلد للنوم حتى لا تسمعنا جدتي وترعبنا بقصة الثآليل التي ستطبع على أجسادنا بعدد النجوم التي تجرأنا على حسابها. أما في الصباح الباكر، كان يتوجب عليّ بمعونة أخي البحث عن بيضات الدجاج التي تلعب الغميضة في اختيار مكان وضعها. تنتهي مهمة البحث هذه بوجبة إفطار شهية من البيض المسلوق وخبز جدتي الطازج وحليب الإبل الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا..!
كم أحببتها، جدتي! وكم أحببت رائحتها حين كنت أتهاوى على صدرها باكية من مشاكسات أخي الأكبر أو مضايقات أبناء العمومة المجردين من ذوق التعامل مع فتاة!
لم أبكِ حين ودّعتْ عالمنا الذي لم أحيَ منه حينها غير سبع سنين .. لم تخنقني غصة فقدها إلا عندما رأيت دموع أبي المنزلقة على خدّيْه وهو يتظاهر بالنوم في زاوية المنزل..
أما بيت جدتي لأمي الطينيّ كان أكثر إثارة وغموض! كان يتكون من طابقين ضيقين ينتهي للأعلى بسطح يكشف عن وسط المدينة، وهذا شيء دخيل على ما اعتدناه في قرانا البسيطة ذات البيوت الشعبية التي تكاد أعلى نقطة في حيطانها تلامس أكتاف آباءنا من فرط انخفاضها،
عندما نبيت عند جدتي-وهذا نادر! يكاد ينحصر على أيام الأعياد والمناسبات- كنت أستيقظ مغمضة العينين، سائلةً ربي بتراتيل طفولية أن أفتحهما على إطلالة السقف المكون من جذوع النخل المرصوصة طولاً وعرضا. حين يتحقق أملي أنهض سعيدة جداً لعلمي أن جدتي ستبعث أحدهم إلى سوق المدينة ليحضر لنا الخبز الطازج (التميس). كنا نتشارك مع أبناء خؤولتنا متعة الإفطار الأرستقراطي هذا تتبعه متعة اللعب في حارات وسط المدينة..نتابع حركة السيارات ودويّها وجلبة الباعة وصرخاتهم في ذهول.. ولا ننسى أن نتسابق إلى الدكان الذي تسلب أفئدتنا منظر بضاعته كما يسلب صاحبه قروشنا المعدودة.
من الغريب أن يحمل بيتا الجدتين الطابع نفسه من الحميمية والألفة بالرغم من التنافر السافر -للجميع-بين شخصيتيّ العجوزين، ولعلّ قسوة الحياة وفقد رفيقيْهما جعل قلبيهما يفوران بعطاءٍ غطى على أرواح من حولهم، حتى أصبح بيتاهما نزل راحة وطمأنينة لمن حلّ في رحابها..
رحمة واسعة أدعو الله أن يغمر بها جدتي لأبي، وعمر مديد وعافية لجدتي لأمي..